لحظة السكون العربية المرعبة
Source: العربي الجديد
مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية - الإفريقية".
لا صوت يعلو على صوت الصمت والسكون في العالم العربي، لا إبادة غزّة ولا حرب الغلاء وحروب تهشيم الطبقات المتوسطة والتنكيل بالطبقات الفقيرة، أو تنمّر أجهزة المخابرات وحروبها العبثية على محكومي رؤسائها، الذين يجري تصنيفهم، جملة ومفرّقا، في خانة الخطر المحتمل والدائم، طالما أن بعضهم فكًر، في يوم، التمرّد على هؤلاء وخلع حمولاتهم الأمنية والعسكرية.
لا صوت يرتفع في الشوارع العربية سوى أصوات بائعي الخضار في الأسواق الشعبية، وضجيج السيارات، واللذين لولاهما لسمعنا صوت العصافير التي تزقزق في سماء القاهرة في شوارع الدار البيضاء، على مبدأ أن اهتزازات جناح الفراشة في طوكيو قد تتولّد عنها موجات ارتدادية في سماء نيويورك، فلن تأتي السماء العربية ببجعات سود بعد تلك الأيام، وكل البجع القادم سيكون أبيض.
أثبتت حرب غزّة، وسياسات التنكيل التي تمارسها إسرائيل على الهواء مباشرةً ضد أطفال غزّة ونسائها وصولا إلى قتلهم جوعا وعطشا، أن الشوارع العربية عادت إلى النوم العميق على سرير اللامبالاة، وأن حكام القصور الذين كانوا ينامون بأحذيتهم العسكرية ويتأبّطون مدافعهم الرشاشة، عاودوا لبس ملاءات النوم الحريرية، بعد أن أغرقوا شعوبهم بالتلهّي، إما من خلال الحكم عليهم بالأشغال الشاقّة، حيث يجرون ولا يحصَلون قوت يومهم في دائرة لا تتوقف وتستهلك أعمارهم وتُقصي أحلامهم وآدميتهم، أو عبر الجري وراء الاستهلاك المنفلش وغير القابل للإشباع الكلي والنهائي.
الشاطر من يدبر نفسه، هذه الإستراتيجية الأكثر رواجا في عدة بلدان عربية، وتدبير الأمور يتم من خلال التكيّف مع الأمر الواقع والتعايش معه
في العالم العربي، لم تعُد ثمّة رهانات على حلولٍ جماعية، حلولٍ تصنعها الشعوب، من نوع فرض الضغوط على الحكّام لاتخاذ سياساتٍ تخدم الحالة العامة وتغير المسارات المنحرفة التي تسير بها بعض نخب الحكم التي تدمّر كل إمكانيات النهوض والتطور من دون أي اعتبار لهؤلاء الذين تجري سرقة حاضرهم ومستقبلهم، ومن دون الالتفات إلى معاناتهم الحاضرة التي تصل في بعض البلدان العربية إلى حد الموت جوعا وإرهاقا نتيجة استنفاد طاقاتهم واليأس من إمكانية حصول أي تغيير في أوضاعهم.
الشاطر من يدبر نفسه، هذه الإستراتيجية الأكثر رواجا في عدة بلدان عربية، وتدبير الأمور يتم من خلال التكيّف مع الأمر الواقع والتعايش معه وتحويله إلى فرصة، وبذلك يتم إلغاء أي تفكير عام وإخراجه نهائيا من دائرة الاحتمال، على اعتبار أنه ضربٌ من الجنون وعمل غير منطقي ولا عقلاني، بالإضافة إلى عدم جدواه، فهو يعني بالتطبيق الفعلي انتحاراً لما ينطوي عليه من مخالفةٍ للسائد وللمكوّنات التي توفّرها اللحظة.
تدبير الأمور أيضا يعني تعلَم تقنيات معينة واختراع أدواتٍ جديدةٍ ومن خارج الصندوق، نظراً إلى ندرة الفرص والتنافس الشديد على الحصول عليها والاستمتاع بميزاتها، وتدبير الأمور في النهاية راحة للحاكم وانكفاء للشعب عن ممارسة السياسة، ما دامت السياسة لا يأتي من ورائها غير المعتقلات والتعذيب والتغييب في السجون والاضطهاد والتضييق الاقتصادي.
في إطار استراتيجية تدبير النفس، برزت ظاهرة إرسال الأولاد الصغار إلى أوروبا، حيث يركبون المخاطر قادمين من سورية والعراق ومصر والمغرب وتونس وغيرها من الدول العربية، يبيع ذويهم أملاكهم، وأحيانا أعضاء من أجسادهم، ويصرفون كل ما ادّخروا لأيام الشدًة، ليرموا أولادهم في عرض البحر، وإن نجوا فهم معرّضون للتشرّد في أوروبا وعيش سنوات صعبة تنتهي أحيانا بالإدمان أو يصطادهم تجّار المخدّرات ويقضون أعمارهم في السجون، والمشكلة أن غالبية هؤلاء يأتون من الأرياف الفقيرة أو من أحياء العشوائيات في المدن، أي من بيئاتٍ محافظة، ولم يسبق لهم اختبار نمط الحياة الأوروبي المنفتح.
لا الهروب إلى الخارج حلّ، ولا استراتيجيات تدبير الحال والتكيف مع الواقع، مهما كانت طبيعته، حلٌّ قابلٌ للدوام والتعايش معه
لا خيارات وردية أمام غالبية الشعوب العربية، ولا بدائل غير ما يرسمه الحاكم من إستراتيجيات لإلهاء شعبه أو إقصائه عن الشأن العام، والمسارات والطرق التي يرسمها صنّاع قرارات مهووسون بالبقاء في الحكم، ليست سوى مسارات زلقة ومسارب خطرة، كثيرا ما تظنّ الشعوب أنها طرق سلامة، ولا تستشعر مخاطرها أو تدركها سوى بعد فوات الأوان، فالأهل الذين يدفعون أبناءهم إلى بلاد الآخرين، يعتقدون أنهم يستثمرون في مستقبلهم، قبل أن يكتشفوا أنهم اشتروا الشقاء لأبنائهم، وربما الدمار الذي لا إصلاح بعده.
السكون العربي الحالي من أشكال السرطان الذي يدمَر مستقبل الشعوب العربية، حالة الإغراء التي ينطوي عليها والمتمثّلة بالسلامة، تخبئ في طيّاتها مخاطر لا تعدّ ولا تُحصى، فالمكاسب المتحقَقة التي غالبا ما يجري احتسابها في الحفاظ على الحياة بدل الموت والعيش بحرّية بدل التعفَن في السجون، تصبّ، في الحقيقة، في رصيد الأنظمة الحاكمة، في إطالة بقائها واستمرارها في سياسات التخريب والتدمير والاستفراد في السلطة، وتخصِم من أسهم الشعوب بناء مستقبلها وتأسيس حياةٍ كريمةٍ ومريحة.
ليس الهدف من هذه المقالة الدعوة إلى مواجهةٍ انتحاريةٍ مع قوى الحكم المتنمّرة في العالم العربي، بقدر ما هي دعوة إلى نخب هذه الشعوب رفض الهزيمة والبحث عن استراتيجيات لتغيير هذه الأوضاع التي لم تعد الشعوب قادرةً على تحمّلها، بل تنطوي على مخاطر مؤكّدة على مستقبل الأجيال الصاعدة، في ظل انهيار مؤسّسات الدول وضياع ثرواتها، فلا الهروب إلى الخارج حلّ، ولا استراتيجيات تدبير الحال والتكيّف مع الواقع، مهما كانت طبيعته، حلٌّ قابلٌ للدوام والتعايش معه.